Monday, March 30, 2009

أنا


1-فين؟!!
أفقت اليوم لأجدني أسعى حثيثاً نحو السادسة والعشرين. صحيح أنها ليست السن المخيفة بعد, ولا تعني شيئاً خاصاً في حياة الإنسان كالثامنة عشر أو الحادية و العشرين أو الخامسة و العشرين مثلاً. لكن إدراكي أني أعيشُ الأن عامي السادس و العشرين علي ظهر هذه الأرض أصابني بصدمةٍ من نوعٍ خاص. فأنا أعلم أني قد إحتفلت في شهر سبتمبر الماضي بعيد ميلادي الخامس و العشرين, لكن يبدو أن هذا العلم لم يتحول إلي إدراك تام بهذه الحقيقة إلا اليوم. ولا أدري لهذا سبباً.
ما يعنيني حقاً ليست السادسة و العشرون, لكنها الخمسُ و عشرون عاماً التي مضت,إنقضت,ذهبت,مرت,فاتت و إنتهت من حياتي..ربعُ قرنٍ من الزمان مرت بيَ في هذي الحياة. عشتُ خلالها عبرَ ما مر بي فإبتسمتُ و عَبِستُ, ضحكت و بكيت, و مضيتُ فيهُنَ كما يمضي الناس في أعمارهم أتقَلبُ من حالٍ إلى حال.

2- جيت منين طيب؟!!
خمسٌ و عشرون عاما, منها ما يقارب الثلاث عشرة عاماً في طفولةٍ أجرؤ علي القول بأنها كانت سعيدة, أو علي أقل تقدير كانت أسعد مما تلاها من أعوام, طفولةٌ شبه عادية كانت. ككل أبناء جيلي تقريباً سافرت مع والديَ إلى إحدى دول النفط في بدايات عهد ما بعد الإنفتاح الثاني و في أوائل العهد المبارك الذي ولدتُ و نشأت و عشت و يبدو أني سأرحل عن الحياة في رحابه - ( أعتقد أني من المحظوظين الذين جاءوا إلى الدنيا في عهودٍ مباركة و سيرحلون عنها في أيامٍ يملؤها الجمال).
كان نصيبي من بلاد النفط هو أرضُ الحجاز, المملكة كما أطلقوا عليها في إسم ذلك الفيلم السخيف, وقد أعطاني هذا الفرصة لأكون من أصغر الحجاج سناً, فقد أتممتُ مراسم الحجِ و العمرة مع والديَ و أنا بعدُ لم أتم عامي الثالث. وكان شكلي كالملائكة في إحرامِ أبيض بحجم طفلٍ في الثالثةِ من عمرهِ (دا كلام أمي طبعاً).
أمضيت هناك ما يقرب من الأعوام الست تقريباً عدنا بعدها إلى أرض القمامة..قصدي الكمامة..يوووه قصدي الكنانة, لأدخل في دوامة التعليم المصري العتيدة.
دراسة إبتدائية أنهيتها بتفوق و حصُلتُ علي مجموع يقاربُ السادسة و التسعين بالمائة في عامي الخامس الإبتدائي و الذي كان شهادةً شديدة الأهمية كما شعرتُ وقتها. ثم ثلاث أعوام في دراسة إعدادية (و لا أدري لما كانت تُعِدُنا تلك الدراسة "الإعدادية" علي أي حال), أنهيت عامي الثالث بها بمجموع يماثل أو يزيدُ قليلاً عن ذلك الذي حَصَلتُ بالإبتدائية. و من الطريف أني في عامي الثاني الإعدادي حَصُلتُ علي مجموع نهائي حوالي سِتٍ وثمانين بالمائة, أذكر أني حزنت وقتها حزناً شديداً, فقد كانت هذه هي المرةُ الأولي التي ينحدرُ فيها مجموعي النهائي إلى أقلَ من خمسٍ و تسعين بالمائة.
غير أن أهم ما طرأ عليَ من تغيير في تلك الفترة أن ذُقتٌ الحبَ –أو ما ظننتهُ حباً- للمرةِ الأولي في حياتي, كنت في أواخر الثانيةَ عشر من عمري ساعتها. كانت مدرستي الإبتدائية و الإعدادية مدرسةً مختلطة لذا لم يكن غريباً عليَ أن أتعامل مع زميلاتٍ ليَ بفصلي.
أعتقد أنه في أثناء سنى الطفولة تظهر مشاعر كل من الجنسين نحو الأخر في شكل مشاكل طفولية, إغاظة للأخر, مشادات كلامية , معارك بريئة ونحو ذلك. ثم تبدأ مرحلة الإنجذاب الغير مفهوم من الطرفين للطرف الأخر مع بداية أعوام المراهقة.تليها مرحلة إدراك الأخر وحجمه ودوره في الحياة وفهم الدافع الغريزي الذي وضعه الخالق في كلا الطرفين نحو الأخر. لكني و من عامي الخامس الإبتدائي تقريباً –( وهي تقريباً نفس السن التي حصلتُ فيها علي أول كمبيوتر في حياتي)- في هذي السن كنت أشعر بشئ لم أفهمه ولم أدرك كنهه نحو فتاة بعينها من زميلاتي في الصف.
لم تكن فاتنة الصف كما يطلقون عليها في المدارس الأمريكية, لم تكن أجملهن ولا أخفهن ظلاً ولا أكثرهن ذكاءاً وليست "أشطرهن" -بتعبير طفولتنا – من ناحية الدراسة. ففي هذه الفترة كنت أتنافسُ دوماً مع إثنين من أصدقائي –(مازالا إلي يومنا هذا من أصحابي)- كنا نتنافس علي زعامةِ "شطارة" الفصل بين الأولاد, فتارةٌ أتفوق أنا و تارةٌ يتفوق أحدهما. بينما كانت تتنازع لقب "أشطر بنت" إثنتان من الفتيات هما "سمية" و "سارة".
يا الله, لكم وددت أن أتفوق علي سمية هذه, كانت نموذجيةً تلك الفتاة. شديدة المهارة باللغات كعادة معظم الفتيات و برغم ذلك لا تقل ذكاءاً بالعلوم و الرياضيات وسواهما. وهي كابتن فريق كرة اليد للفتيات –و قد كانت كرة اليد هوايتي الأولي في ذاك الوقت إذ كنتُ مهاجماً خطيراً , نظراً لصغر حجمي و سرعة تحركي- ولطالما لعب فريقنا من الفتيان مع فريق سمية لنخسر منهن مرة و نربح مرة.
المهم أن فتاتي- إن جاز هذا التعبير علي أطفال في سننا وقتئذ- لم تكن إحدى تلكم الفتيات المميزات بالصف. لكنها كانت بالتأكيد "شاطرة" هي الأخرى, كانت دائماً تنافس علي المركز الرابع أو الخامس. وكانت أيضاً –مثلي- عضواً في "جماعة الكمبيوتر" والتي إبتدعنا لها تصميماً بدائياً لبطاقات العضوية التي صنعنها يدوياً ووزعناها علي أنفسنا ولم يكن عددنا يتجاوز العشرة أفراد.
رانية.. أتذكر إسمها الأن بنفس الموسيقى التي شعرت بها دوماً حين كنت أنطق إسمها منذ أعوامٍ عديدة. بيضاءُ بضة كانت, وفي عينيها الزرقاوين يلتمعُ ذكاءٌ شديد مخلوطاً بشئ غير قليل من "شقاوة" الطفولة وبراءتها. وجهها المبتسمٌ دائماً مملؤٌ نمشاً دقيقاً لونه مزيجٌ من درجات الحُمرة كلون شعرها.. شعرٌ مموج لونه مزيج من البرتقالي و الأحمر. لها رائحةٌ مميزة لا أدري حتي اليوم ما كان مصدرها, لكنها مخدرة جذابة, لم أشم مثل عبيرها علي إمرأة أو فتاة إلي هذه اللحظة. ذات لثغةٍ بالراء, تنطقها ثقيلةً إلي حد ما, هي سر ضعفي الشديد أمام الفتيات ذوات اللثغة بالراء إلي يومنا هذا. وهي سبب حالة الوله-والتي قد تتحول إلي بله- التي أصابُ بها أمام فتاة حمراء الشعر أو زرقاء العينين.

"فتاتي ذات الإثنى عشر ربيعاً..تُرى أين أنتِ الأن؟!!..و كأني لم أعشق سِواك.."

من يدري لعلها الأن إحدى من يقرأن هذه الكلمات. رأيتها مصادفة في الطريق منذ ما يقرب من العام. لم تذكرني لكني تعرفتها من فوري. لم تتغير كثيراً, ذات النمشٍ في وجهها ومازالت عيناها تلتمعان بذات البريق و إن إختفي شعرها المموج خلف حجابٍ ينسدل ليضربَ علي جيبها و يلتقي مع ملابسها الأنيقة المحتشمة ليكمل الصورة التي تخيلتُ يوماً أنها ستكونها. قد أصبحت كما تخيلتها ستكون يوماً منذ أعوامٍ عدة. لكني أنا الذي أصبحتُ غير ما تخيلنا وقتها, لها عذرها إذا لم تتعرفني ..لكم غيرتني تلك السنون. لكنها ذات السنون التي زادتها بهاءاً علي بهاء و رونقاً علي رونقها و رقةً علي رقة, و نقاءاً فوق نقاء.. لعل الله يوفقها إلى ما يُحبُ و يرضى و ما تحبُ و ترضى.

3- طب رايح فين؟!!
إنتهت أعوامي الإعدادية و إنتهت معها قصتي مع رانية بعد ما يقارب الثلاث أعوام من المشاعر البريئة التي كنتُ أتعرفها للمرةِ الأولى..
إنتقلتُ إلى مدرسة ثانوية عسكرية, هي المدرسة "الإبراهيمية الثانوية العسكرية للبنين". وقد كانت هذه نقطة تحول هامة نقلتني من عالم الطفولة المنعمة التي كنت أحيا فيها , إلي قلب عالم المراهقة و المراهقين المتقلب بكل عنفوانه وقلقه و رغباته ورهباته وتجاربه وخبراته.
ذلك أني حتى السنة الثالثة من دراستي الإعدادية كانت مدرستي على بعد خمس دقائق مشياً وئيدا. وكان أصحابي –على كثرتهم- كلهم على نفس شاكلتي لم نعرف شيئاً في هذا العالم سوى منازلنا و مدرستنا و أهالينا و بعضنا البعض. ولا خبرة لنا غير ما نقرأ و نتبادل من كتب. كنا جميعا في منتهى السذاجة أو إن شئت التخفيف البراءة.
كما أن مدرستي كانت خاصة مشتركة و الدراسة بها لا علاقة لها بمناهج التعليم العام إلي حد بعيد,اللهم إلا في الإمتحانات, لذا فحجم الإختلاف و النقلة المفاجئة لم يكن هيناً, من هذا العالم الضيق النقي , إلي دنيا المراهقين.

مدرستي الجديدة كانت تقع في حي "جاردن سيتي" في مواجهة السفارة السعودية, و إلي يسارها كانت مدرسة ثانوية فرنسية قبطية للفتيات (وسيأتي الحديث عنها لاحقاً), المهم أن الدراسة تبدأ في الثامنة إلا الربع وحيث أني أقطن في منطقة متاخمة لحي حلوان, كان لزاماً علي أن أبدأ تحركي من منزلي متجهاً إلي محطة المترو لأتخذ طريقي إلي المدرسة في حوالي السادسة و النصف صباحاً.
وحيث أن المدرسة كانت –ولاتزال- تحتفظ ببواقٍ من طابع العسكرية,فإن التأخر عن طابور الصباح كان له عواقب وخيمة ولم يكن بالشئ الهين,خاصة وأنا طالبٌ-وقتئذ- مهذب و ملتزم وقد تؤذيني كلمةُ إهانةٍ أو توبيخ أسمعها أشد الأذى (دا وقتئذ برضه بالمناسبة ).
كما تعرفت لأول مرة من خلال مراقبتي زملائي من الطلاب على شعور الشباب المراهق بالحرمان وأدركت حجم عدم الفهم الذي يعانون منه لذلك الكائن المجهول المسمى "فتاة" وهو ما سينمو مع الكثيرين منهم ليتحولَ إلي حجمٍ أكبر من عدم الفهم للكائن الأكثر غموضاً "المرأة" , وقد كان هذا يبدو واضحاً في "نظرياتهم" التي يؤمنون بها و يتشاركونها في مناقشاتهم حول الفتيات و ما يحببن وما يكرهن وما هي أسهل الطرق إلي فتاة. وأجد من الجدير بالذكر هنا أن أحداً منهم -على حد ما أذكر- لم يسأل قط عن أقصر الطرق إلي قلب الفتاة لكن إهتمامهم كان منصباً علي أقصر الطرق للفتاة كأحد مظاهر التفوق و التباهي فيما بينهم البعض بالإضافة بالطبع إلي الإهتمام السائد بينهم- بحكم الطبيعة العمرية و التربوية- بالفتاة كأنثى مجردة.

وقد كانت دراستي الثانوية هذه بالنسبة لي تجربةً جديدة وكنت برغم شكواى المستمرة مستمتعاً بها أيما إستمتاع, كعادتي بالإبتهاج بكل تجربة جديدة ولو لم تكن سعيدة أو سارة. وهي عادة لازمتني لتصبح جزأً من شخصيتي حيث وهبني الله القدرة على الإستمتاع بكل موقف جديد وإن كان شائكاً كخبرة تضاف إلي خبراتي, ومبدأي في مواجهة المواقف الجديدة بسيطٌ للغاية, فأنا إن نجوت من هذا المأزق فقد تعلمت كيف أنجو من أمثاله, وكيف أتلافي حدوثه مجدداً وكيف أتعافى من نتائجه وكيف أصبرُ عليه. أما إذا لم أنج, فستكون خسارتي في هذا المأزق مهما كان حجمها هي أقل مشاكلي.

أسمع وأنا أكتب هذي الكلمات إلي غنوة هي برغم ركاكة كلماتها أحد أحب الأغنيات لقلبي. أغنيةُ قديمةٌ نوعاً للمغني متوسط الشهرة "هشام عباس" وهو بالمناسبة أحد مطربي مراهقتي المفضلين. بها جزءٌ تقول كلماته:
"زمان وأنا صغير, كنت بحلم أبقى كبير
تعب القلب وإتحير من الدنيا و من المشاوير
الحلم كان برئ مفروش بالورود
والقلب كان جرئ مليان بالوعود
ولما كبرت قلت ياريت ما كنت حلمت ولا إتمنيت وقلت ياريتني فضلت صغير..
زي زمان..

أما ما حدث في سنون مراهقتي و أيام دراستي الثانوية ثم شبابي و دراستي الجامعية, وكيف تحول ذلكم الطفل المبتسم بداخلي إلي هذه الشخصية المتشائمةَ بالطبيعة, المتحريةَ للواقعية,و الباحثة عن منطق الأشياء. وكيف أصبحت روحي قلقةً وثابة, وأصبح عقلي كالفرسِ البري الجامح يأبي الترويض. كيف كُسِرَ ال"حلم البرئ" و كيف تعلم ال"قلب الجرئ" أن يخشى الغد وأن يغدو ملئً بوعود مكسورة و عهودٍ مغدورة..فلنا في هذا كله لقاءٌ أخر..