Wednesday, November 28, 2018

ليس اليوم

أقود سيارتي في الطريق إلى العمل..نزلت متأخرا اليوم لكني ، على غير عجلة.. الجو غائم و أكاد أشم رائحة الأمطار القادمة. 
على غير المعتاد زجاج النافذة المجاور لي مفتوح قليلا و كذا نافذة الراكب المجاور، تكييف الهواء مطفأ وهاتفي موصل بجهاز استماع السيارة الذي تنساب من أبواقه العشرة موسيقى أوركسترالية ما. 

اليوم وقبل نزولي من المنزل اقتطعت ما يكفي من الوقت لإعد مشروبا أحتسيه في الطريق..مشروب هو مزيج من القهوة الأمريكية غير المفلترة ، و مسحوق الكاكاو و القليل من القرفة مع بعض أعواد القرنفل، له رائحة زكية تفعم السيارة وتغلفني في دفء رغم النوافذ المفتوحة.. 

 الموسيقى..
رائحة القهوة مخلوطة برائحة الهواء المبلل..
درجات الضوء المتباينة بين الغيوم وأشعة الشمس القليلة التي تتسلل بين فجوات السحب..
لسعة محببة من البرد الخفيف تتسرب مع الهواء.. 
اهتزازات السيارة مع الطريق..
 أشعر أني مغلف بهذا كله مخلوطا ببعضه..كأنما تكاتفت محيطاتي مع حواسي لتمنحني قليلا من السلام و تحميني من العالم خارج حصون السيارة.. 

أقود على مهل، على عكس قيادتي اليومية، أتابع في إسترخاء صراع البقاء الجاري أمامي و من حولي للقفز مترا أو مترين إلى الأمام..الكل يريد الوصول أولا، حتى إن كان هذا يعني عدم الوصول مطلقا لبعض الأخرين.. أفهم هذا بل و أمارسه أحيانا..لكن.. ليس اليوم.

ينعطف بي الطريق لتصبح الشمس الناعسة في مواجهتي..تلقي إلى بنظرة محتجبة بالغيوم، كأنها "المليحة في الخمار الأسود".. أتبسم لها و أرفع كوب قهوتي محييا، بينما تغمرني نظرات الدهشة الممتزجة بالحنق من سائق السيارة الذي يتجاوزني في تلك اللحظة.. معذرة يا صديق،لكن إن حيتك الشمس فلا يصح ألا ترد بأحسن منها! أتفهم مشاعرك حقا ،فأنا هو أنت في يوم أخر..لكن.. ليس اليوم.

أنحرف يمينا خارجا من الطريق السريع، لا حاجة لي اليوم لأضغط بعنف على المكابح كما أفعل عادة في هذا المنعطف ، اليوم سرعتي مناسبة لأتطلع إلى قناة الماء التي تتبدي بين مبني ذاك الفندق الشهير و الفيلات المجاورة.. أمر بها كل يوم ولا تسعني اللحظات القليلة أثناء دوراني أن أرى شيئا. لكني اليوم أرى..أرى الماء ينساب بين الضفة القريبة مني و بين جزيرة من أشجار المانجروف تقسم القناة الواسعة إلى فرعين أقل إتساعا. أري بعض الطيور تقف فوق المانجروف، أري الشمس مرة أخيرة خلف القناة وخلف السحب، قبل أن يستقيم المنعطف لتصبح خلفي.. لا ألاحظ هذا المشهد أبدا برغم أنه طريقي اليومي،  في المعتاد أنعطف في سرعة و أدقع بالسيارة لتقفز عبر المخرج متجاوزا بعض ال"أخرين".. لكن.. ليس اليوم.

أصل إلى النقاطع الأول.. في طريقي ثلاث تقاطعات (أهي ثلاث أم ثلاثة؟ أيتفق مع النوع أم يختلف..) أتوقف في الضوء الأحمر.. الموسيقى الأن في تصعاد سريع (كريشندو Crescendo ) تتعالى حتى أشعر أن راكب الدراجة النارية جواري قد سمعها برغم الخوذة المحكمة حول رأسه.. يلتفت ناحيتي..أبتسم ،لكنه لا يراني.. متى توقفتنا عن الإبتسام؟ .. ربما لا تعجبه الموسيقى؟

أتذكر أني كنت أقود في وسط المدينة قبل عدة أيام عندما توقف جواري بأحد التقاطعات شاب يرتدي زي إحدى دول الجوار، نوافذ سيارته الأربع مفتوحة قليلا و تنبعث منها صاخبة إحدى الأغاني الخليجية الشبابية.. ما أبغض هذا النوع من الأغاني إلى نفسي! 
أنا استمع احيانا إلى أغان ذات إيقاع خليجي من بعض مطربي الخليج القدامى مثل محمد عبده، لكن الأغنيات الشبابية الخليجية تثير توتري!! أذكر أني ابديت امتعاضي لزوجتي وقلت شيئا على غرار "أسمع ما تريد في سيارتك لكن أغلق النوافذ!! ما ذنبي أن تؤذي أذني بهذا الهراء" . 
في تلك اللحظة جالت بخاطري فكرة أن راكب الدراجة النارية يكرر نفس العبارة في رأسه.. لماذا أؤذي أنا الأن اذنيه بهذا الكريشيندو من الهراء؟!! فقط لأني أنا الأن من فتح النوافذ و رفع صوت الموسيقى، تحول ذات الفعل إلى شئ مقبول..بل إني أؤدي إلى العالم من حولى خدمة بتحسين الذوق العام بسماع تلك الموسيقى الكلاسيكية..أليس كذلك؟  

 - أنكيل بمكيالين الأن؟ .. سألني الصوت الرابض في مؤخرة جمجمتي..    
- لكن شتان بين ما كان يصخب في سيارة ذاك الشاب من إزعاج و بين الرقي المتجسد في ما ينبعث من حولى الأن!! .. أجبته
- و ما أدراك أنت من حولك يتقبلون موسيقاك؟! ربما بالنسبة لهم هي "هراء صاخب" و ربما الكلاسيكيات "تثير توترهم".. 
- إن من لا يعجب بهذه الموسيقى لا ذوق له ولا يقدر الفن.. 
- و من لا يعجب بتلك الأغنية الخليجية الصاخبة "لا ذوق له" و "لا يقدر الغناء"  لابد أن هذا ما قدره الشاب في سيارته
-  ............
- أغلق النوافذ أو اخفض من صوت الموسيقى. 


  

رب قبح عند زيد هو حسن عند بكر
فهما ضدّان فيه وهو وهم عند عمرو
فمن الصّادق فيما يدّعيه ، ليت شعري
ولماذا ليس للحسن قياس؟

لست أدري!


متى تنتهي حريتنا؟ بل و أين ؟ 
 أين تبدأ؟ 
أين الميزان و المقياس و الحكام؟
ماذا يبرر لي أن أفعل ما انتقدت؟
لكن، أليس هذا جزء من حريتي؟ حرية أن أفعل و حرية أن أنتقد؟ و إن كان نفس الفعل؟ 
و ماذا عن حرية الأخر؟ أليس حرا أن يستمع و يصخب؟ أليس حرا أن يعتقد أن موسيقاه أفضل؟ وانه يشارك من نفسه مع من صادف وجودهم حوله؟
و حريتي أنا؟ ألست حرا ألا اسمع ما أبغض؟ ألست حرا أن انتقد ما يسمع و أظهر امتعاضي؟ ألست حرا أن أشارك ما أعتقد انه الأفضل أنا أيضا؟

أفي كل فعل حر نمارسه نقلص مساحة الحرية لمن حولنا؟ أتنتقص حريتي من حرية الأخرين؟

عندما أقرر بحرية أن أشرب كوب القهوة هذا في ذاك المقهى، ألم أخذ القهوة و الكرسي و الطاولة من أخر؟
 ربما كان هناك من يقرر في حرية أيضا أن يجلس هنا و يشرب كوب القهوة هذا نفسه، لكنه تأخر قليلا..
 ألا يعني هذا أن قراري الحر انتزع منه جزء من حريته؟!! لم يعد يقدر أن يجلس في الكرسي..ولا أن يضع هاتفه و الحقيبة على الطاولة ولا أن يمسك كوب القهوة الساخن ليحتسيه.. أخذت أنا كل ذلك، فقط لأني حريتي كانت أسبق منه.. 

أهو مازال حرا على الإطلاق ؟! من غيري إنتزع جزأ من حريته؟ أخذ موقف السيارة، و عبر أسرع منه  قبل الضوء الأحمر، و ألقى إليه بكومة من التقارير أو حزمة أوامر.. من غيري وضع له قواعد الحضور و الإنصراف؟ من حدد له الزي المناسب للعمل؟ من إقتطع من دخله المكتسب ؟ من قرر له المتاح على قنوات تلفازه داخل منزله؟ من حدد له إختيارات الإفطار أو الغذاء؟  

من قرر لي أنا ساعة الإستراحة التي انتزعت خلالها حريته في اختيار هذا الكرسي و الطاولة؟.. 

من منا حر حقا؟!































No comments:

Post a Comment